الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الجزء السابع عشر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} قَدْ أَدْرَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقَرُّوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَعَمِلُوا بِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِمَّا سَمَّى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، الْخُلُودَ فِي جَنَّاتِ رَبِّهِمْ وَفَازُوا بِطَلَبَتِهِمْ لَدَيْهِ. كَمًّا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ثُمَّ قَالَ: قَالَ كَعْبٌ: لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ بِيَدِهِ إِلَّا ثَلَاثَةً: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَكَتَبَ التَّوْرَاةِ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي! فَقَالَتْ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} لِمَا عَلِمَتْ فِيهَا مِنَ الْكَرَامَةِ. حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ الضَّرِيسِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رَفِيعٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: لَمَّا غَرَسَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْجَنَّةَ، نَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}. قَالَ: ثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِي خَلَدَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} فَأَنْزَلَ بِهِ قُرْآنًا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جُبَيْرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ، قَالَ: "لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ شَيْئًا بِيَدِهِ غَيْرَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَكَتَبَ الْأَلْوَاحَ بِيَدِهِ، وَالتَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ عَدْنًا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ". وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ إِذَا قَامُوا فِيهَا خَاشِعُونَ، وَخُشُوعِهِمْ فِيهَا تَذَلُّلِهِمْ لِلَّهِ فِيهَا بِطَاعَتِهِ، وَقِيَامِهِمْ فِيهَا بِمَا أَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ بِهِ فِيهَا. وَقِيلَ إِنَّهَا نَزَلَتْ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ فِيهَا إِلَى السَّمَاءِ قَبْلَ نُزُولِهَا، فَنُهُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنْ ذَلِكَ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ خَالِدًا، «عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قَالَ: فَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَجْهَهُ حَيْثُ يَسْجُد» ". حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا هَارُونُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ الصَّوَّافِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: "كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ فِي الصَّلَاةِ إِلَى السَّمَاءِ، حَتَّى نَزَلَتْ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} فَقَالُوا: بَعْدَ ذَلِكَ بِرُءُوسِهِمْ هَكَذَا". حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، «عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: "نُبِّئَْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَنَزَلَتْ آيَةُ، إِنْ لَمْ تَكُنْ {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} فَلَا أَدْرِي أَيَّةَ آيَةٍ هِيَ، قَالَ: فَطَأْطَأَ. قَالَ: وَقَالَ مُحَمَّدٌ: وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَا يُجَاوِزُ بَصَرُهُ مُصَلَّاهُ، فَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَعَادَ النَّظَرَ فَلْيُغْمِض». حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ نَحْوَهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِي عَنَى بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ الْخُشُوعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهِ سُكُونَ الْأَطْرَافِ فِي الصَّلَاةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قَالَ: السُّكُونُ فِيهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قَالَ: سُكُونُ الْمَرْءِ فِي صِلَاتِهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، مِثْلُهُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قَالَ: لَا تَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِكَ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ يَحْيَى الرَّمْلِيُّ، قَالَ: قَالَ ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِي شَوْذَبٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قَالَ: كَانَ خُشُوعُهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ، فَغَضُّوا بِذَلِكَ الْبَصَرِ وَخَفَضُوا بِهِ الْجَنَاحَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي قَوْلِهِ: (خَاشِعُونَ) قَالَ: الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ، وَقَالَ: سَاكِنُونَ. قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنِي خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ، وَأَنْ تُلِينَ لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ كَنَفَكَ، وَلَا تَلْتَفِتَ. قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قَالَ: التَّخَشُّعُ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ لِي غَيْرُ عَطَاءٍ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ وَوُجَاهِهِ، حَتَّى نَزَلَتْ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} فَمَا رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ إِلَّا إِلَى الْأَرْض».
وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِهِ الْخَوْفَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قَالَ: خَائِفُونَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قَالَ الْحَسَنُ: خَائِفُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} يَقُولُ: خَائِفُونَ سَاكِنُونَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ مِنْ كِتَابِنَا أَنَّ الْخُشُوعَ التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ ذَلِكَ مَعْنًى دُونَ مَعْنًى فِي عَقْلٍ وَلَا خَبَرٍ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ مَعْنَى مُرَادِهِ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومُ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ مَا وَصَفْتُ مِنْ قَبْلُ، مِنْ أَنَّهُ: وَالَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ مُتَذَلِّلُونَ لِلَّهِ بِإِدَامَةِ مَا أَلْزَمَهُمْ مِنْ فَرْضِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَإِذَا تَذَلَّلَ لِلَّهِ فِيهَا الْعَبْدُ رُؤِيَتْ ذِلَّةُ خُضُوعِهِ فِي سُكُونِ أَطْرَافِهِ وَشَغْلِهِ بِفَرْضِهِ وَتَرْكِهِ مَا أُمِرَ بِتَرْكِهِ فِيهَا. وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ الْبَاطِلِ وَمَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ مُعْرِضُونَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} يَقُولُ: الْبَاطِلُ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ: {عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} قَالَ: عَنِ الْمَعَاصِي. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، مِثْلُهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} قَالَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ مَعَهُ مِنْ صَحَابَتِهِ، مِمَّنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ كَانُوا " {عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ لِزَكَاةِ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهَا مُؤَدُّونَ، وَفِعْلُهُمُ الَّذِي وُصِفُوا بِهِ هُوَ أَدَاؤُهُمُوهَا. وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} يَقُولُ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِ أَنْفُسِهِمْ وَعَنَى بِالْفُرُوجِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: فُرُوجَ الرِّجَالِ، وَذَلِكَ أَقْبَالُهُمْ. (حَافِظُونَ) يَحْفَظُونَهَا مِنْ أَعْمَالِهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْفُرُوجِ. {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} يَقُولُ: إِلَّا مِنْ أَزْوَاجِهِمُ اللَّاتِي أَحَلَّهُنَّ اللَّهُ لِلرِّجَالِ بِالنِّكَاحِ. {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يَعْنِي بِذَلِكَ: إِمَاءَهُمْ. وَ"مَا" الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} مَحَلُّ خَفْضٍ، عَطْفًا عَلَى الْأَزْوَاجِ. {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} يَقُولُ: فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ فَرْجَهُ عَنْ زَوْجِهِ، وَمِلْكِ يَمِينِهِ، وَحِفْظِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْخَلْقِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُوَبَّخٍ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا مَذْمُومٍ، وَلَا هُوَ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ رَاكِبٌ ذَنْبًا يُلَامُ عَلَيْهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} يَقُولُ: رَضِيَ اللَّهُ لَهُمْ إِتْيَانُهُمْ أَزْوَاجَهُمْ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ. وَقَوْلُهُ: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} يَقُولُ: فَمَنِ الْتَمَسَ لِفَرَجِهِ مَنْكَحًا سِوَى زَوْجَتِهِ، وَمِلْكِ يَمِينِهِ، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} يَقُولُ: فَهُمُ الْعَادُونَ حُدُودَ اللَّهِ، الْمُجَاوِزُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ إِلَى مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَهَاهُمُ اللَّهُ نَهْيًا شَدِيدًا، فَقَالَ: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} فَسَمَّى الزَّانِيَ مِنَ الْعَادِينَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} قَالَ: الَّذِينَ يَتَعَدَّوْنَ الْحَلَالَ إِلَى الْحَرَامِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فِي قَوْلِهِ: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} قَالَ: مَنْ زَنَى فَهُوَ عَادٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ} الَّتِي ائْتُمِنُوا عَلَيْهَا (وَعَهْدِهِمْ) وَهُوَ عُقُودُهُمُ الَّتِي عَاقَدُوا النَّاسَ (رَاعُونَ) يَقُولُ: حَافِظُونَ لَا يُضَيِّعُونَ، وَلَكِنَّهُمْ يُوفُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ إِلَّا ابْنَ كَثِيرٍ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ} عَلَى الْجَمْعِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ ابْنُ كَثِيرٍ: "لِأَمَانَتِهِمْ" عَلَى الْوَاحِدَةِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: {لِأَمَانَاتِهِمْ} لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} يَقُولُ: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى أَوْقَاتِ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، فَلَا يُضَيِّعُونَهَا وَلَا يَشْتَغِلُونَ عَنْهَا حَتَّى تَفُوتَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يُرَاعُونَهَا حَتَّى يُؤَدُّوهَا فِيهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} قَالَ: عَلَى وَقْتِهَا. حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} عَلَى مِيقَاتِهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَرْقِيُّ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ زَحْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ. قَالَ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} قَالَ: أَقَامَ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: عَلَى صَلَوَاتِهِمْ دَائِمُونَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} قَالَ: دَائِمُونَ، قَالَ: يَعْنِي بِهَا الْمَكْتُوبَةَ. وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا، هُمُ الْوَارِثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَازِلَ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الْجَنَّةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، رُوِيَ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَأَوَّلَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ. عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "«مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلَانِ: مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، وَإِنْ مَاتَ وَدَخَلَ النَّارَ وَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَه»" فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ}. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي قَوْلِهِ، {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} قَالَ: يَرِثُونَ مَسَاكِنَهُمْ، وَمَسَاكِنَ إِخْوَانِهِمُ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهُمْ لَوْ أَطَاعُوا اللَّهَ. حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ. عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} قَالَ: يَرِثُونَ مَسَاكِنَهُمْ، وَمَسَاكِنَ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ أُعِدَّتْ لَهُمْ لَوْ أَطَاعُوا اللَّهَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: الْوَارِثُونَ الْجَنَّةَ أُورِثْتُمُوهَا، وَالْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا هُنَّ سَوَاءٌ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ مُجَاهِدٌ: يَرِثُ الَّذِي مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَهُ وَأَهْلِ غَيْرِهِ، وَمَنْزِلَ الَّذِينَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، هُمْ يَرْثُونَ أَهْلَ النَّارِ، فَلَهُمْ مَنْزِلَانِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلَانِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَبْنِي مَنْزِلَهُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ، وَيَهْدِمُ مَنْزِلَهُ فِي النَّارِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَهْدِمُ مَنْزِلَهُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ. وَيَبْنِي مَنْزِلَهُ الَّذِي فِي النَّارِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَنْ لَيْثٍِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {الَّذِينَ يَرِثُونَ} الْبُسْتَانَ ذَا الْكَرْمِ، وَهُوَ الْفِرْدَوْسُ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ: هُوَ بِالرُّومِيَّةِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} قَالَ: الْفِرْدَوْسُ: بُسْتَانٌ بِالرُّومِيَّةِ. قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: عَدْنٌ حَدِيقَةٌ فِي الْجَنَّةِ، قَصْرُهَا فِيهَا عَدْنُهَا، خَلَقَهَا بِيَدِهِ، تُفْتَحُ كُلَّ فَجْرٍ فَيَنْظُرُ فِيهَا، ثُمَّ يَقُولُ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}، قَالَ: هِيَ الْفِرْدَوْسُ أَيْضًا تِلْكَ الْحَدِيقَةُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: غَرَسَهَا اللَّهُ بِيَدِهِ، فَلَمَّا بَلَغَتْ قَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ثُمَّ أَمَرَ بِهَا تُغْلَقُ، فَلَا يَنْظُرُ فِيهَا خَلْقٌ وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ثُمَّ تَفْتَحُ كُلَّ سَحَرٍ، فَيَنْظُرُ فِيهَا فَيَقُولُ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ثُمَّ تُغْلَقُ إِلَى مِثْلِهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «قُتِلَ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كَانَ ابْنِي مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ; لَمْ أَبْكِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ; بَالَغْتُ فِي الْبُكَاءِ. قَالَ: "يَاأُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جَنَّتَانِ فِي جَنَّةٍ، وَإِنَّ ابْنَكِ قَدْ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى مِنَ الْجَنَّة» ". حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلُهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ كَعْبٍ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ بِيَدِهِ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ، غَرَسَهَا بِيَدِهِ. ثُمَّ قَالَ: تَكَلَّمِي، قَالَتْ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}. قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ حُسَامِ بْنِ مِصَكٍّ، عَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا، مِثْلُهُ. غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: تَكَلَّمِي، قَالَتْ: طُوبَى لِلْمُتَّقِينَ. قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ نُفَيْعٍ، قَالَ: لِمَا خَلَقَهَا اللَّهُ، قَالَ لَهَا: تَزَيَّنِي; فَتَزَيَّنَتْ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي; فَقَالَتْ: طُوبَى لِمَنْ رَضِيتَ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) يَعْنِي مَاكِثُونَ فِيهَا، يَقُولُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ خَالِدُونَ، يَعْنِي مَاكِثُونَ فِيهَا أَبَدًا، لَا يَتَحَوَّلُونَ عَنْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} أَسْلَلْنَاهُ مِنْهُ، فَالسُّلَالَةُ: هِيَ الْمُسْتَلَّةُ مِنْ كُلِّ تُرْبَةٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ آدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرْبَةٍ أُخِذَتْ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ فِي الْمَعْنِيِّ بِالْإِنْسَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهِ آدَمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: (مِنْ طِينٍ) قَالَ: اسْتَلَّ آدَمَ مِنَ الطِّينِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} قَالَ: اسْتَلَّ آدَمَ مِنْ طِينٍ، وَخُلِقَتْ ذُرِّيَّتُهُ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَلَقَدْ خَلَقَنَا وَلَدَ آدَمَ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، مِنْ سُلَالَةٍ، وَهِيَ النُّطْفَةُ الَّتِي اسْتُلَّتْ مَنْ ظَهْرِ الْفَحْلِ مِنْ طِينٍ، وَهُوَ آدَمُ الَّذِي خُلِقَ مَنْ طِينٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمُنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} قَالَ: صَفْوَةُ الْمَاءِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {مِنْ سُلَالَةٍ} مِنْ مَنِيِّ آدَمَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ. قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ. قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ. وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا ابْنَ آدَمَ مِنْ سُلَالَةِ آدَمَ، وَهِيَ صِفَةُ مَائِهِ، وَآدَمُ هُوَ الطِّينُ; لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْهُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ; لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَّا بَعْدَ خَلْقِهِ فِي صَلْبِ الْفَحْلِ، وَمِنْ بَعْدِ تَحَوُّلِهِ مِنْ صَلْبِهِ صَارَ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ; وَالْعَرَبُ تُسَمِّي وَلَدَ الرَّجُلِ وَنُطْفَتَهُ: سَلِيلُهُ وَسُلَالَتُهُ. لِأَنَّهُمَا مَسْلُولَانِ مِنْهُ، وَمِنَ السُّلَالَةِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: حَمَلَتْ بِهِ عَضْبَ الْأَدِيمِ غَضَنْفَرًا *** سُلَالَةَ فَرْجٍ كَانَ غَيْرَ حَصِينِ وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَهَلْ كُنْتُ إِلَّا مُهْرَةً عَرَبِيَّةً *** سُلَالَةَ أَفْرَاسٍ تَجَلَّلَهَا بَغْلُ فَمِنْ قَالَ: سُلَالَةً جَمَعَهَا سُلَالَاتٍ، وَرُبَّمَا جَمَعُوهَا سَلَائِلَ، وَلَيْسَ بِالْكَثِيرِ. لِأَنَّ السَّلَائِلَ جَمْعٌ لِلسَّلِيلِ، وَمِنْهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِذَا أُنْتِجَتْ مِنْهَا الْمَهَارَى تَشَابَهَتْ *** عَلَى الْقَوْدِ إِلَّا بِالْأُنُوفِ سَلَائِلُهْ وَقَوْلُ الرَّاجِزِ: يَقْذِفْنَ فِي أَسْلَابِهَا بِالسَّلَائِلِ
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}. يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} ثُمَّ جَعَلْنَا الْإِنْسَانَ الَّذِي جَعَلْنَاهُ مِنْ سُلَالَةٍ مَنْ طِينٍ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، وَهُوَ حَيْثُ اسْتَقَرَّتْ فِيهِ نُطْفَةُ الرَّجُلِ مَنْ رَحِمَ الْمَرْأَةِ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مَكِينٌ; لِأَنَّهُ مَكَّنَ لِذَلِكَ، وَهَيَّأَ لَهُ لِيَسْتَقِرَّ فِيهِ إِلَى بُلُوغِ أَمْرِهِ الَّذِي جَعَلَهُ لَهُ قَرَارًا. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} يَقُولُ: ثُمَّ صَيَّرْنَا النُّطْفَةَ الَّتِي جَعَلْنَاهَا فِي قَرَارٍ مَكِينٍ عَلَقَةً، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الدَّمِ، {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} يَقُولُ: فَجَعَلْنَا ذَلِكَ الدَّمَ مُضْغَةً، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ. وَقَوْلُهُ: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} يَقُولُ: فَجَعَلْنَا تِلْكَ الْمُضْغَةَ اللَّحْمَ عِظَامًا. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ سِوَى عَاصِمٍ: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} عَلَى الْجَمْعِ، وَكَانَ عَاصِمٌ وَعَبْدُ اللَّهِ يَقْرَءَانِ ذَلِكَ: (عَظْمًا) فِي الْحَرْفَيْنِ عَلَى التَّوْحِيدِ جَمِيعًا. وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي نَخْتَارُ فِي ذَلِكَ الْجَمْعُ؛ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} يَقُولُ: فَأَلْبَسْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا. وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: (ثُمَّ خَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عَظْمًا) وَعَصَبًا، فَكَسَوْنَاهُ لَحْمًا. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} يَقُولُ: ثُمَّ أَنْشَأَنَا هَذَا الْإِنْسَانَ خَلْقًا آخَرَ. وَهَذِهِ الْهَاءُ الَّتِي فِي: (أَنْشَأْنَاهُ) عَائِدَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ ذِكْرِ الْعَظْمِ وَالنُّطْفَةِ وَالْمُضْغَةِ، جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ. فَقِيلَ: ثُمَّ أَنْشَأْنَا ذَلِكَ خَلْقًا آخَرَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْشَاؤُهُ إِيَّاهُ خَلْقًا آخَرَ: نَفْخُهُ الرُّوحَ فِيهِ؛ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ إِنْسَانًا، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ صُورَةً.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} قَالَ: نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِمَثَلِهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} قَالَ: الرُّوحُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} قَالَ: نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ وَابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} قَالَ: نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ. قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِمَثَلِهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} قَالَ: نَفْخُ فِيهِ الرُّوحُ، فَهُوَ الْخُلُقُ الْآخَرُ الَّذِي ذُكِرَ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا} يَعْنِي الرُّوحَ تَنْفُخُ فِيهِ بَعْدَ الْخَلْقِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} قَالَ: الرُّوحُ الَّذِي جَعَلَهُ فِيهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنْشَاؤُهُ خَلْقًا آخَرَ، تَصْرِيفُهُ إِيَّاهُ فِي الْأَحْوَالِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فِي الطُّفُولَةِ وَالْكُهُولَةِ، وَالِاغْتِذَاءِ، وَنَبَاتِ الشَّعْرِ وَالسِّنِّ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْأَحْيَاءِ فِي الدُّنْيَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} يَقُولُ: خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ بَعْدَ مَا خُلِقَ، فَكَانَ مِنْ بَدْءِ خَلْقِهِ الْآخَرِ أَنِ اسْتَهَلَّ، ثُمَّ كَانَ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ دُلَّ عَلَى ثَدْيِ أُمِّهِ، ثُمَّ كَانَ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ عَلِمَ كَيْفَ يَبْسُطُ رِجْلَيْهِ إِلَى أَنْ قَعَدَ، إِلَى أَنْ حَبَا، إِلَى أَنْ قَامَ عَلَى رِجْلَيْهِ، إِلَى أَنْ مَشَى، إِلَى أَنْ فُطِمَ، فَعَلِمَ كَيْفَ يَشْرَبُ وَيَأْكُلُ مِنَ الطَّعَامِ، إِلَى أَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ، إِلَى أَنْ بَلَغَ أَنْ يَتَقَلَّبَ فِي الْبِلَادِ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} قَالَ: يَقُولُ بَعْضُهُمْ: هُوَ نَبَاتُ الشَّعْرِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ نَفْخُ الرُّوحِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلُهُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} قَالَ: يُقَالُ الْخَلْقُ الْآخَرُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ بِسِنِّهِ وَشَعْرِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِإِنْشَائِهِ خَلْقًا آخَرَ: سَوَّى شَبَابَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} قَالَ: حِينَ اسْتَوَى شَبَابُهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: حِينَ اسْتَوَى بِهِ الشَّبَابُ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِذَلِكَ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ يَتَحَوَّلُ خَلْقًا آخَرَ إِنْسَانًا، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْأَحْوَالِ الَّتِي وَصَفَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ بِهَا، مِنْ نُطْفَةٍ وَعَلَقَةٍ وَمُضْغَةٍ وَعَظْمٍ وَبِنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ، يَتَحَوَّلُ عَنْ تِلْكَ الْمَعَانِي كُلِّهَا إِلَى مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ، كَمَا تَحَوَّلَ أَبُوهُ آدَمُ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِي الطِّينَةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا إِنْسَانًا، وَخَلْقًا آخَرَ غَيْرَ الطِّينِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الصَّانِعِينَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} قَالَ: يَصْنَعُونَ وَيَصْنَعُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الصَّانِعِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا قِيلَ: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} لِأَنَّ عِيسَىابْنَ مَرْيَمَ كَانَ يَخْلُقُ، فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَخْلُقُ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ يَخْلُقُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ، فِي قَوْلِهِ: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} قَالَ: عِيسَىابْنُ مَرْيَمَ يَخْلُقُ. وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مُجَاهِدٍ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي كُلَّ صَانِعٍ خَالِقًا، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَلَأَنِْتَ تَفِْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ *** ضُ الْقَوْمِ يخْلُقُ ثِمَّ لَا يَفِْرِي وَيُرْوَى: وَلَأَنْتَ تَخْلُقُ مَا فَرِيتَ وَبَعْ *** ضُ القَوْمِ يخْلُقُ ثُِمَّ لَا يَفِْرِي
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ بَعْدِ إِنْشَائِكُمْ خَلْقًا آخَرَ وَتَصْيِيرَنَاكُمْ إِنْسَانًا سَوِيًّا مَيِّتُونَ وَعَائِدُونَ تُرَابًا كَمَا كُنْتُمْ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ وُعَوْدِكُمْ رُفَاتًا بَالِيًا، مَبْعُوثُونَ مِنَ التُّرَابِ خَلْقًا جَدِيدًا، كَمَا بَدَأْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَإِنَّمَا قِيلَ: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ}؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ حَالٍ لَهُمْ يَحْدُثُ لَمْ يَكُنْ. وَكَذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ لِمَنْ لَمْ يَمُتْ: هُوَ مَائِتٌ وَمَيِّتٌ عَنْ قَلِيلٍ، وَلَا يَقُولُونَ لِمَنْ قَدْ مَاتَ مَائِتٌ، وَكَذَلِكَ هُوَ طَمَعٌ فِيمَا عِنْدَكَ إِذَا وَصَفَ بِالطَّمَعِ، فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ سَيَفْعَلُ وَلَمْ يَفْعَلْ قِيلَ: هُوَ طَامِعٌ فِيمَا عِنْدَكَ غَدًا، وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا كَانَ نَظِيرًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، بَعْضَهُنَّ فَوْقَ بَعْضٍ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ فَوْقَ شَيْءٍ طَرِيقَةً. وَإِنَّمَا قِيلَ لِلسَّمَاوَاتِ السَّبْعِ سَبْعَ طَرَائِقَ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُنَّ فَوْقَ بَعْضٍ، فَكُلُّ سَمَاءٍ مِنْهُنَّ طَرِيقَةٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} قَالَ: الطَّرَائِقُ: السَّمَاوَاتُ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} يَقُولُ: وَمَا كُنَّا فِي خَلْقِنَا السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ فَوْقَكُمْ، عَنْ خَلْقِنَا الَّذِي تَحْتَهَا غَافِلِينَ، بَلْ كُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ مِنْ أَنْ تُسْقِطَ عَلَيْهِمْ فَتُهْلِكُهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ مَاءٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِيهَا. كَمَا: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} مَاءٌ هُوَ مِنَ السَّمَاءِ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَإِنَّا عَلَى الْمَاءِ الَّذِي أَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ لَقَادِرُونَ أَنْ نَذْهَبَ بِهِ، فَتَهْلَكُوا أَيُّهَا النَّاسُ عَطَشًا، وَتُخَرَّبَ أَرْضَوْكُمْ، فَلَا تُنْبِتُ زَرْعًا وَلَا غَرْسًا، وَتَهْلَكُ مَوَاشِيكُمْ، يَقُولُ: فَمِنْ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ تَرْكِي ذَلِكَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ جَارِيًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَحْدَثْنَا لَكُمْ بِالْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ بَسَاتِينَ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ (لَكُمْ فِيهَا) يَقُولُ: لَكُمْ فِي الْجَنَّاتِ فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ. {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} يَقُولُ: وَمِنَ الْفَوَاكِهِ تَأْكُلُونَ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ وَالْأَلِفُ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ ذِكْرِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ. وَخَصَّ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْجَنَّاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ، دُونَ وَصْفِهَا بِسَائِرِ ثِمَارِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ هَذَيْنَ النَّوْعَيْنِ مِنَ الثِّمَارِ كَانَا هُمَا أَعْظَمَ ثِمَارِ الْحِجَازِ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا، فَكَانَتِ النَّخِيلُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْأَعْنَابُ لِأَهْلِ الطَّائِفِ، فَذَكَّرَ الْقَوْمَ بِمَا يَعْرِفُونَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ ثِمَارِهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَنْشَأْنَا لَكُمْ أَيْضًا شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ وَشَجَرَةً مَنْصُوبَةً عَطْفًا عَلَى الْجَنَّاتِ وَيَعْنِي بِهَا: شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ. وَقَوْلُهُ: {تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} يَقُولُ: تَخْرُجُ مِنْ جَبَلٍ يُنْبِتُ الْأَشْجَارَ. وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى الطَّوْرِ فِيمَا مَضَى بِشَوَاهِدِهِ، وَاخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (سَيْنَاءَ) فَإِنَّ الْقُرَّاءَ اخْتَلَفَتْ فِي قِرَاءَتِهِ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: (سِينَاءَ) بِكَسْرِ السِّينِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: (سَيْنَاءَ) بِفَتْحِ السِّينِ، وَهُمَا جَمِيعًا مُجْمِعُونَ عَلَى مَدِّهَا. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: الْمُبَارَكُ، كَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُ: وَشَجَرَةٌ تَخْرُجُ مِنْ جَبَلٍ مُبَارَكٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {طُورِ سَيْنَاءَ} قَالَ: الْمُبَارَكُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} قَالَ: هُوَ جَبَلٌ بِالشَّامِ مُبَارَكٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: حَسَنٌ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {طُورِ سَيْنَاءَ} قَالَ: هُوَ جَبَلٌ حَسَنٌ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} الطَّوْرُ: الْجَبَلُ بِالنَّبَطِيَّةِ، وَسَيْنَاءُ، حَسَنَةٌ بِالنَّبَطِيَّةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ اسْمُ جَبَلٍ مَعْرُوفٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} قَالَ: الْجَبَلُ الَّذِي نُودِيَ مِنْهُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {طُورِ سَيْنَاءَ} قَالَ: هُوَ جَبَلُ الطُّورِ الَّذِي بِالشَّامِ، جَبَلٌ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: مَمْدُودٌ، هُوَ بَيْنَ مِصْرَ وَبَيْنَ أَيَلَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُ جَبَلٌ ذُو شَجَرٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَمَّنْ قَالَهُ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ سَيْنَاءَ اسْمٌ أُضِيفَ إِلَيْهِ الطَّوْرُ يُعْرَفُ بِهِ، كَمَا قِيلَ: جَبَلَا طَيِّئٍ، فَأُضِيفَا إِلَى طَيِّئٍ، وَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: جَبَلٌ مُبَارَكٌ، أَوْ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ حَسَنٌ، لَكَانَ الطَّوْرُ مُنَوَّنًا، وَكَانَ قَوْلُهُ سَيْنَاءَ مِنْ نَعْتِهِ، عَلَى أَنَّ سَيْنَاءَ بِمَعْنَى: مُبَارَكٌ وَحَسَنٌ، غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ نَعْتِ الْجَبَلِ، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، مِنْ أَنَّهُ جَبَلٌ عُرِفَ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ الْجَبَلُ الَّذِي نُودِيَ مِنْهُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُبَارَكٌ، لَا أَنَّ مَعْنَى سَيْنَاءَ: مَعْنَى مُبَارَكٍ. وَقَوْلُهُ: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: (تَنْبُتُ) فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: (تَنْبُتُ) بِفَتْحِ التَّاءِ، بِمَعْنَى: تَنْبُتُ هَذِهِ الشَّجَرَةُ بِثَمَرِ الدُّهْنِ، وَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ: (تُنْبِتُ) بِضَمِّ التَّاءِ، بِمَعْنَى تُنْبِتُ الدُّهْنَ، تُخْرِجُهُ. وَذَكَرَ أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: (تُخْرِجُ الدُّهْنَ) وَقَالُوا: الْبَاءُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ زَائِدَةٌ كَمَا قِيلَ: أَخَذْتُ ثَوْبَهُ، وَأَخَذْتُ بِثَوْبِهِ، وَكَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: نَحِْنُ بَنُِو جَعْدَةَ أََرْبِابُ الْفَلَجْ نَضِْرِبُ بِالبِيضِ وَنَرْجُِو بِالْفَرَجِ بِمَعْنَى: وَنَرْجُو الْفَرَجَ. وَالْقَوْلُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ: نَبَتَ، وَأَنْبَتَ؛ وَمِنْ أَنْبَتَ قَوْلُ زُهَيْرٍ: رَأَيْتُ ذَوِي الْحَاجَاتِ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ *** قَطِينِا لَهُِمْ حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ الْبَقِْلُ وَيُرْوَى: نَبْتٌ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} وَ"فَاسْرُ"، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ الَّتِي لَا أَخْتَارُ غَيْرَهَا فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: (تَنْبُتُ) بِفَتْحِ التَّاءِ؛ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا. وَمَعْنَى ذَلِكَ: تَنْبُتُ هَذِهِ الشَّجَرَةُ بِثَمَرِ الدُّهْنِ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} قَالَ: بِثَمَرِهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ. وَالدُّهْنَّ الَّذِي هُوَ مِنْ ثَمَرِهِ الزَّيْتُ، كَمَا حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} يَقُولُ: هُوَ الزَّيْتُ يُوكَلُ، وَيُدْهَنُ بِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} يَقُولُ: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَبِصَبْغٍ لِلْآكِلِينَ، يَصْطَبِغُ بِالزَّيْتِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَهُ. كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} قَالَ: هَذَا الزَّيْتُونُ صِبْغٌ لِلْآكِلِينَ، يَأْتَدِمُونَ بِهِ، وَيَصْطَبِغُونَ بِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَالصَّبْغُ عَطْفٌ عَلَى الدُّهْنِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَإِنَّ لَكُمْ) أَيُّهَا النَّاسُ {فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} تَعْتَبِرُونَ بِهَا، فَتَعْرِفُونَ بِهَا أَيَادِيَ اللَّهِ عِنْدَكُمْ، وَقُدْرَتَهُ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَأَنَّهُ الَّذِي لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَهُ وَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ شَاءَهُ {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} مِنَ اللَّبَنِ الْخَارِجِ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ، (وَلَكُمْ) مَعَ ذَلِكَ (فِيهَا) يَعْنِي فِي الْأَنْعَامِ {مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} وَذَلِكَ كَالْإِبِلِ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا، وَيُرْكَبُ ظَهْرُهَا، وَيُشْرَبُ دُرُّهَا، {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} يَعْنِي مِنْ لُحُومِهَا تَأْكُلُونَ. وَقَوْلُهُ: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} يَقُولُ: وَعَلَى الْأَنْعَامِ، وَعَلَى السُّفُنِ تُحْمَلُونَ عَلَى هَذِهِ فِي الْبَرِّ، وَعَلَى هَذِهِ فِي الْبَحْرِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} دَاعِيهِمْ إِلَى طَاعَتِنَا وَتَوْحِيدِنَا، وَالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَانَا، (فَقَالَ) لَهُمْ نُوحٌ {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} يَقُولُ: قَالَ لَهُمْ: ذِلُّوا يَا قَوْمِ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} يَقُولُ: مَا لَكَمَ مِنْ مَعْبُودٍ يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ غَيْرُهُ، (أَفَلَا تَتَّقُونَ) يَقُولُ: أَفَلَا تَخْشَوْنَ بِعِبَادَتِكُمْ غَيْرَهُ عِقَابَهُ أَنْ يَحِلَّ بِكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَقَالَتْ جَمَاعَةُ أَشْرَافِ قَوْمِ نُوحٍ، الَّذِينَ جَحَدُوا تَوْحِيدَ اللَّهِ، وَكَذَّبُوهُ لِقَوْمِهِمْ: مَا نُوحٌ أَيُّهَا الْقَوْمُ إِلَّا بَشَرٌ مُثُلُكُمْ، إِنَّمَا هُوَ إِنْسَانٌ مِثْلُكُمْ وَكَبَعْضِكُمْ {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} يَقُولُ: يُرِيدُ أَنْ يَصِيرَ لَهُ الْفَضْلُ عَلَيْكُمْ، فَيَكُونُ مَتْبُوعًا وَأَنْتُمْ لَهُ تَبَعٌ {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} يَقُولُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا نَعْبُدَ شَيْئًا سِوَاهُ؛ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً، يَقُولُ: لَأَرْسَلَ بِالدُّعَاءِ إِلَى مَا يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ نُوحٌ مَلَائِكَةً تُؤَدِّي إِلَيْكُمْ رِسَالَتُهُ. وَقَوْلُهُ: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} الَّذِي يَدْعُونَا إِلَيْهِ نُوحٌ، مِنْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ لَنَا غَيْرُ اللَّهِ فِي الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، وَهِيَ آبَاؤُهُمُ الْأَوَّلُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}. يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ الْمَلَأِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِ نُوحٍ: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} مَا نُوحٌ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جُنُونٌ. وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا لِلْجِنِّ: جِنَّةٌ، فَيَتَّفِقُ الِاسْمُ وَالْمَصْدَرُ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ: (إِنْ هُوَ) كِنَايَةُ اسْمِ نُوحٍ. وَقَوْلُهُ: {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} يَقُولُ: فَتَلَبَّثُوا بِهِ، وَتَنْظُرُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ، يَقُولُ: إِلَى وَقْتٍ مَا، وَلَمْ يَعْنُوا بِذَلِكَ وَقْتًا مَعْلُومًا، إِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: دَعْهُ إِلَى يَوْمٍ مَا، أَوْ إِلَى وَقْتٍ مَا، وَقَوْلُهُ: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} يَقُولُ: قَالَ نُوحٌ دَاعِيًا رَبَّهُ، مُسْتَنْصِرًا بِهِ عَلَى قَوْمِهِ؛ لِمَا طَالَ أَمْرُهُ وَأَمْرُهُمْ، وَتَمَادَوْا فِي غَيِّهِمْ: {رَبِّ انْصُرْنِي} عَلَى قَوْمِي {بِمَا كَذَّبُونِ} يَعْنِي بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّايَ، فِيمَا بَلَّغْتُهُمْ مِنْ رِسَالَتِكَ، وَدَعَوْتُهُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِكَ. وَقَوْلُهُ: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} يَقُولُ: فَقُلْنَا لَهُ حِينَ اسْتَنْصَرَنَا عَلَى كَفَرَةِ قَوْمِهِ: اصْنَعِ الْفُلْكَ، وَهِيَ السَّفِينَةُ؛ بِأَعْيُنِنَا، يَقُولُ: بِمَرْأَى مِنَّا، وَمَنْظَرٍ، وَوَحْيِنَا، يَقُولُ: وَبِتَعْلِيمِنَا إِيَّاكَ صَنْعَتَهَا، {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} يَقُولُ: فَإِذَا جَاءَ قَضَاؤُنَا فِي قَوْمِكَ، بِعَذَابِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ {وَفَارَ التَّنُّورُ}. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي صِفَةِ فَوْرِ التَّنُّورِ. وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ بِشَوَاهِدِهِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} يَقُولُ: فَادْخُلْ فِي الْفُلْكِ وَاحْمِلْ. وَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ فِي قَوْلِهِ: (فِيهَا) مِنْ ذِكْرِ الْفُلْكِ {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} يُقَالُ: سَلَكْتُهُ فِي كَذَا، وَأَسْلَكْتُهُ فِيهِ، وَمَنْ سَلَكْتُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وكُِنْتُ لِزَازَ خَصْمِكَ لَمْ أُعَرِّدْ *** وَقَدْ سَلَكُوكَ فِي يَوْمٍ عَصِيِبِ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: أَسْلَكْتُ بِالْأَلِفِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الهُذَلِيِّ. حَتَّى إِذَا أَسِْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ *** شَلَا كَمَا تَطِْرُدُ الْجَمَّالَةُ الشُِّرُدَا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} يَقُولُ لِنُوحٍ: اجْعَلْ فِي السَّفِينَةِ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ (وَأَهْلَكَ) وَهُمْ وَلَدُهُ وَنِسَاؤُهُمْ {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} مِنَ اللَّهِ بِأَنَّهُ هَالِكٌ، فِيمَنْ يَهْلَكُ مِنْ قَوْمِكَ، فَلَا تَحْمِلْهُ مَعَكَ، وَهُوَ يَامُ الَّذِي غَرِقَ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: (مِنْهُمْ) مِنْ أَهْلِكَ، وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي قَوْلِهِ (مِنْهُمْ) مِنْ ذِكْرِ الْأَهْلِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تُخَاطِبْنِي} الْآيَةَ، يَقُولُ: وَلَا تَسْأَلْنِي فِي الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ أَنْ أُنْجِيَهُمْ. {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} يَقُولُ: فَإِنِّي قَدْ حَتَّمْتُ عَلَيْهِمْ أَنْ أُغْرِقَ جَمِيعَهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} فَإِذَا اعْتَدَلْتَ فِي السَّفِينَةِ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ، مِمَّنْ حَمَلْتَهُ مَعَكَ مِنْ أَهْلِكَ، رَاكِبًا فِيهَا عَالِيًا فَوْقَهَا {فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يَعْنِي مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ أَنِْزِلْنِي مُنِْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنِْزِلِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَقُلْ إِذَا سَلَّمَكَ اللَّهُ، وَأَخْرَجَكَ مِنَ الْفُلْكِ، فَنَزَلْتَ عَنْهَا: {رَبِّ أَنِْزِلْنِي مُنِْزَلًا} مِنَ الْأَرْضِ {مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ} مِنْ أَنْزَلَ عِبَادَهُ الْمَنَازِلَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {مُنِْزَلًا مُبَارَكًا} قَالَ: لِنُوحٍ حِينَ نَزَلَ مِنَ السَّفِينَةِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ. قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: {رَبِّ أَنِْزِلْنِي مُنِْزَلًا مُبَارَكًا} بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ، بِمَعْنَى: أَنِْزِلْنِي إِنِْزَالًا مُبَارَكًا. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ (مَنْزِلًا) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ. بِمَعْنَى: أَنِْزِلْنِي مَكَانًا مُبَارَكًا وَمَوْضِعًا. وَقَوْلُهُ: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنْ فِيمَا فَعَلْنَا بِقَوْمِ نُوحٍ يَا مُحَمَّدُ، مِنْ إِهْلَاكِنَاهُمْ إِذْ كَذَّبُوا رُسُلَنَا، وَجَحَدُوا وَحْدَانِيِّتَنَا وَعَبَدُوا الْآلِهَةَ وَالْأَصْنَامَ- لَعِبَرًا لِقَوْمِكَ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَعِظَاتٍ وَحُجَجًا لَنَا، يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى سَنَتِنَا فِي أَمْثَالِهِمْ، فَيَنِْزَجِرُوا عَنْ كُفْرِهِمْ، وَيَرْتَدِعُوا عَنْ تَكْذِيبِكَ، حَذَرًا أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ الَّذِي أَصَابَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكُنَّا مُخْتَبِرِيهُمْ بِتَذْكِيرِنَا إِيَّاهُمْ بِآيَاتِنَا، لِنَنْظُرَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبِلَ نُزُولِ عُقُوبَتِنَا بِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ أَحْدَثْنَا مِنْ بَعْدِ مَهْلِكِ قَوْمِ نُوحٍ، قَرْنًا آخَرِينَ، فَأَوْجَدْنَاهُمْ {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} دَاعِيًا لَهُمْ، (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) يَا قَوْمِ، وَأَطِيعُوهُ دُونَ الْآلِهَةِ وَالْأَصْنَامِ، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لَهُ (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) يَقُولُ: مَا لَكَمَ مِنْ مَعْبُودٍ يَصْلُحُ أَنْ تَعْبُدُوا سِوَاهُ (أَفَلَا تَتَّقُونَ) أَفَلَا تَخَافُونَ عُقَابَ اللَّهِ بِعِبَادَتِكُمْ شَيْئًا دُونَهُ، وَهُوَ الْإِلَهُ الَّذِي لَا إِلَهَ لَكُمْ سِوَاهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَتِ الْأَشْرَافُ مِنْ قَوْمِ الرَّسُولِ الَّذِي أَرْسَلْنَا بَعْدَ نُوحٍ، وَعَنَى بِالرَّسُولِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: صَالِحًا، وَبِقَوْمِهِ: ثَمُودَ. {الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ} يَقُولُ: الَّذِينَ جَحَدُوا تَوْحِيدَ اللَّهِ، وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ، يَعْنِي، كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ: {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يَقُولُ: وَنَعَّمْنَاهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا بِمَا وَسَّعْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَعَاشِ، وَبَسَطْنَا لَهُمْ مِنَ الرِّزْقِ، حَتَّى بَطِرُوا وعَتَوْا عَلَى رَبِّهِمْ، وَكَفَرُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: وَقَدْ أُرَانِي بِالدِّيَارِ مُتْرَفًا وَقَوْلُهُ: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} يَقُولُ: قَالُوا: بَعَثَ اللَّهُ صَالِحًا إِلَيْنَا رَسُولًا مِنْ بَيْنِنَا، وَخَصَّهُ بِالرِّسَالَةِ دُونَنَا، وَهُوَ إِنْسَانٌ مِثْلُنَا، يَأْكُلُ مِمَّا نَأْكُلُ مِنْهُ مِنَ الطَّعَامِ، وَيَشْرَبُ مِمَّا نَشْرَبُ، وَكَيْفَ لَمْ يُرْسِلْ مَلَكًا مِنْ عِنْدِهِ يُبَلِّغُنَا رِسَالَتَهُ، قَالَ: {وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} مَعْنَاهُ: مِمَّا تَشْرَبُونَ مِنْهُ، فَحَذَفَ مِنَ الْكَلَامِ "مِنْهُ"؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَيَشْرَبُ مِنْ شَرَابِكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: شَرِبْتُ مِنْ شَرَابِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِ صَالِحٍ لِقَوْمِهِمْ: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ} فَاتَّبَعْتُمُوهُ، وَقَبِلْتُمْ مَا يَقُولُ وَصَدَّقْتُمُوهُ. (إِنَّكُمْ) أَيُّهَا الْقَوْمُ (إِذًا لَخَاسِرُونَ) يَقُولُ: قَالُوا: إِنَّكُمْ إِذَنْ لَمَغْبُونُونَ حُظُوظَكُمْ مِنَ الشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ فِي الدُّنْيَا، بِاتِّبَاعِكُمْ إِيَّاهُ. قَوْلُهُ: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا} الْآيَةَ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالُوا لَهُمْ: أَيَعِدُكُمْ صَالِحٌ أَنَّكُمْ إِذَا مُتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا فِي قُبُورِكُمْ، وَعِظَامًا قَدْ ذَهَبَتْ لُحُومُ أَجْسَادِكُمْ، وَبَقِيَتْ عِظَامُهَا- أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً، كَمَا كُنْتُمْ قَبْلَ مَمَاتِكُمْ؟ وَأُعِيدَتْ (أَنَّكُمْ) مَرَّتَيْنِ، وَالْمَعْنَى: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مُتُّمْ، وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا- مُخْرَجُونَ مَرَّةً وَاحِدَةً، لَمَّا فَرَّقَ بَيْنَ (أَنَّكُمْ) الْأُولَى، وَبَيْنَ خَبَرِهَا بِإِذًا، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ بِكُلِّ اسْمٍ أَوْقَعَتْ عَلَيْهِ الظَّنَّ وَأَخَوَاتِهِ، ثُمَّ اعْتَرَضَتَ بِالْجَزَاءِ دُونَ خَبَرِهِ، فَتُكَرِّرُ اسْمَهُ مَرَّةً وَتَحْذِفُهُ أُخْرَى، فَتَقُولُ: أَظُنُّ أَنَّكَ إِنْ جَالَسْتَنَا أَنَّكَ مُحْسِنٌ، فَإِنْ حَذَفْتَ أَنَّكَ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةَ صَلَحَ، وَإِنْ أَثْبَتَّهُمَا صَلَحَ، وَإِنْ لَمْ تَعْتَرِضْ بَيْنَهُمَا بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ خَطَأٌ أَنْ يُقَالَ: أَظُنُّ أَنَّكَ أَنَّكَ جَالِسٌ، وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا مُخْرَجُونَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}. وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ قَوْلِ الْمَلَأِ مِنْ ثَمُودَ أَنَّهُمْ قَالُوا: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ: أَيْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ أَيُّهَ الْقَوْمُ، مِنْ أَنَّكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ وَمَصِيرِكُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا مُخْرَجُونَ أَحْيَاءً مِنْ قُبُورِكُمْ، يَقُولُونَ: ذَلِكَ غَيْرُ كَائِنٍ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} يَقُولُ: بِعِيدٌ بَعِيدٌ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} قَالَ: يَعْنِي الْبَعْثَ. وَالْعَرَبُ تُدْخِلُ اللَّامَ مَعَ هَيْهَاتَ فِي الِاسْمِ الَّذِي يَصْحَبُهَا وَتَنِْزَعُهَا مِنْهُ، تَقُولُ: هَيْهَاتَ لَكَ هَيْهَاتَ، وَهَيْهَاتَ مَا تَبْتَغِي هَيْهَاتَ؛ وَإِذَا أَسْقَطْتَ اللَّامَ رَفَعْتَ الِاسْمَ بِمَعْنَى هَيْهَاتَ، كَأَنَّهُ قَالَ: بَعِيدٌ مَا يَنْبَغِي لَكَ؛ كَمَا قَالَ جَرِيرٌ: فَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ الْعَقِيِقُ وَمَنْ بِهِ *** وهَيْهَاتَ خِلٌّ بِالْعَقِيقِ نُواصِلُِهْ كَأَنَّهُ قَالَ: الْعَقِيقُ وَأَهْلُهُ، وَإِنَّمَا أُدْخِلَتِ اللَّامُ مَعَ هَيْهَاتَ فِي الِاسْمِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: هَيْهَاتَ أَدَاةٌ غَيْرُ مَأْخُوذَةٍ مِنْ فِعْلٍ، فَأَدْخَلُوا مَعَهَا فِي الِاسْمِ اللَّامَ، كَمَا أَدْخَلُوهَا مَعَ هَلُمَّ لَكَ، إِذْ لَمْ تَكُنْ مَأْخُوذَةً مِنْ فِعْلٍ، فَإِذَا قَالُوا: أَقْبَلَ، لَمْ يَقُولُوا لَكَ، لِاحْتِمَالِ الْفِعْلِ ضَمِيرَ الِاسْمِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي كَيْفِيَّةِ الْوَقْفِ عَلَى هَيْهَاتَ، فَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَخْتَارُ الْوُقُوفَ فِيهَا بِالْهَاءِ؛ لِأَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ، وَكَانَ الْفَرَّاءُ يَخْتَارُ الْوُقُوفَ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ، وَيَقُولُ: مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَخْفِضُ التَّاءَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِهَاءِ التَّأْنِيثِ، فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ دَرَاكِ وَنَظَارِ، وَأَمَّا نَصْبُ التَّاءِ فِيهِمَا؛ فَلِأَنَّهُمَا أَدَاتَانِ، فَصَارَتَا بِمَنْزِلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَكَانَ الْفَرَّاءُ يَقُولُ: إِنْ قِيلَ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مُسْتَغْنِيَةٌ بِنَفْسِهَا، يَجُوزُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا، وَإِنَّ نَصْبَهَا كَنَصْبِ قَوْلِهِ: ثُمَّتُ جَلَسْتُ؛ وَبِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الشَّاعِرِ. مَاوِيَّ يَا رُبَّتَمَا غَارَةٍ *** شَعْوَاءَ كَاللَّذْعَةِ بِالْمِيسَمِ قَالَ: فَنَصْبُ هَيْهَاتَ بِمَنْزِلَةِ هَذِهِ الْهَاءِ الَّتِي فِي "رَبَّتْ" لِأَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى حَرْفٍ، عَلَى رُبَّ وَعَلَى ثُمَّ، وَكَانَا أَدَاتَيْنِ، فَلَمْ تُغَيِّرْهُمَا عَنْ أَدَاتِهِمَا فَنَصَبَا. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ غَيْرَ أَبِي جَعْفَرٍ: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} بِفَتْحِ التَّاءِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ: (هَيْهَاتِ هَيْهَاتِ) بِكَسْرِ التَّاءِ فِيهِمَا. وَالْفَتْحُ فِيهِمَا هُوَ الْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا؛ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} يَقُولُ: مَا حَيَاةٌ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا الَّتِي نَحْنُ فِيهَا {نَمُوتُ وَنَحْيَا} يَقُولُ: تَمُوتُ الْأَحْيَاءُ مِنَّا فَلَا تَحْيَا، وَيَحْدُثُ آخَرُونَ مِنَّا فَيُوَلِّدُونَ أَحْيَاءً {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} يَقُولُ: قَالُوا: وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بَعْدَ الْمَمَاتِ. كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} قَالَ: يَقُولُ لَيْسَ آخِرَةً وَلَا بَعْثَ، يَكْفُرُونَ بِالْبَعْثِ، يَقُولُونَ: إِنَّمَا هِيَ حَيَاتُنَا هَذِهِ ثُمَّ نَمُوتُ وَلَا نَحْيَا، يَمُوتُ هَؤُلَاءِ وَيَحْيَا هَؤُلَاءِ، يَقُولُونَ: إِنَّمَا النَّاسُ كَالزَّرْعِ يُحْصَدُ هَذَا، وَيَنْبُتُ هَذَا، يَقُولُونَ: يَمُوتُ هَؤُلَاءِ، وَيَأْتِي آخَرُونَ، وَقَرَأَ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} وَقَرَأَ: {لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالُوا مَا صَالِحٌ إِلَّا رَجُلٌ اخْتَلَقَ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فِي قَوْلِهِ: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وَفِي وَعْدِهِ إِيَّاكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مُتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ. وَقَوْلُهُ: (هُوَ) مِنْ ذِكْرِ الرَّسُولِ، وَهُوَ صَالِحٌ. {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} يَقُولُ: وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُصَدِّقِينَ فِيمَا يَقُولُ: إِنَّهُ لَا إِلَهَ لَنَا غَيْرُ اللَّهِ، وَفِيمَا يَعِدُنَا مِنَ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ. وَقَوْلُهُ: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} يَقُولُ: قَالَ صَالِحٌ لِمَا أَيِسَ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِ بِاللَّهِ، وَمِنْ تَصْدِيقِهِمْ إِيَّاهُ بِقَوْلِهِمْ: {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى هَؤُلَاءِ بِمَا كَذَّبُونِ يَقُولُ: بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّايَ فِيمَا دَعَوْتُهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، فَاسْتَغَاثَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِرَبِّهِ مِنْ أَذَاهُمْ إِيَّاهُ، وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ مُجِيبًا فِي مَسْأَلَتِهِ إِيَّاهُ مَا سَأَلَهُ: عَنْ قَلِيلٍ يَا صَالِحُ لِيُصْبِحُنَّ مُكَذِّبُوكَ مِنْ قَوْمِكَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ نَادِمِينَ، وَذَلِكَ حِينَ تَنِْزِلُ بِهِمْ فِتْنَتُنَا فَلَا يَنْفَعُهُمُ النَّدَمُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ، فَأَرْسَلَنَا عَلَيْهِمُ الصَّيْحَةَ، فَأَخَذَتْهُمْ بِالْحَقِّ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَاقَبَهُمْ بِاسْتِحْقَاقِهِمُ الْعِقَابَ مِنْهُ بِكُفْرِهِمْ بِهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُ {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} يَقُولُ: فَصَيَّرْنَاهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْغُثَاءِ، وَهُوَ مَا ارْتَفَعَ عَلَى السَّيْلِ وَنَحْوَهُ، كَمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي شَيْءٍ فَإِنَّمَا هَذَا مِثْلٌ، وَالْمَعْنَى: فَأَهْلَكْنَاهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ كَالشَّيْءِ الَّذِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يَقُولُ: جُعِلُوا كَالشَّيْءِ الْمَيِّتِ الْبَالِي مِنَ الشَّجَرِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (غُثَاءً) كَالرَّمِيمِ الْهَامِدِ، الَّذِي يَحْتَمِلُ السَّيْلُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} قَالَ: كَالرَّمِيمِ الْهَامِدِ الَّذِي يَحْتَمِلُ السَّيْلُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} قَالَ: هُوَ الشَّيْءُ الْبَالِي. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلُهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يَقُولُ: فَأَبْعَدَ اللَّهُ الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ بِهَلَاكِهِمْ؛ إِذْ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، وَعُصَوْا رُسُلَهُ، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: أُولَئِكَ ثَمُودُ، يَعْنِي قَوْلَهُ: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ أَحْدَثْنَا مِنْ بَعْدِ هَلَاكِ ثَمُودَ قَوْمًا آخَرِينَ. وَقَوْلُهُ: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} يَقُولُ: مَا يَتَقَدَّمُ هَلَاكَ أُمَّةٍ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ الَّتِي أَنْشَأْنَاهَا بَعْدَ ثَمُودَ قَبْلَ الْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلْنَا لِهَلَاكِهَا، وَلَا يَسْتَأْخِرُ هَلَاكُهَا عَنِ الْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلْنَا لِهَلَاكِهَا، وَالْوَقْتِ الَّذِي وَقَتْنَا لِفَنَائِهَا، وَلَكِنَّهَا تَهْلَكُ لِمَجِيئِهِ. وَهَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِمُشْرِكِي قَوْمِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِعْلَامٌ مِنْهُ لَهُمْ أَنَّ تَأْخِيرَهُ فِي آجَالِهِمْ، مَعَ كُفْرِهِمْ بِهِ وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُ، لِيَبْلُغُوا الْأَجَلَ الَّذِي أَجَّلَ لَهُمْ، فَيَحِلَّ بِهِمْ نِقْمَتُهُ، كَسُنَّتِهِ فِيمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا) إِلَى الْأُمَمِ الَّتِي أَنْشَأْنَا بَعْدَ ثَمُودَ {رُسُلَنَا تَتْرَى} يَعْنِي: يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَبَعْضُهَا فِي أَثَرِ بَعْضٍ، وَهِيَ مِنَ الْمُوَاتَرَةِ، وَهِيَ اسْمٌ لِجَمْعٍ مِثْلِ شَيْءٍ، لَا يُقَالُ: جَاءَنِي فَلَانٌ تَتْرَى، كَمَا لَا يُقَالُ: جَاءَنِي فَلَانٌ مُوَاتَرَةً، وَهِيَ تُنَوَّنُ وَلَا تُنَوَّنُ، وَفِيهَا الْيَاءُ، فَمَنْ لَمْ يُنَوِّنْهَا (فَعْلَى) مِنْ وَتَرْتُ وَمَنْ قَالَ: "تَتْرًا" يُوهِمُ أَنَّ الْيَاءَ أَصْلِيَّةٌ، كَمَا قِيلَ: مَعْزًى بِالْيَاءِ، وَمَعْزًا، وَبَهْمَى بَهْمًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَأُجْرِيَتْ أَحْيَانًا وَتُرِكَ إِجْرَاؤُهَا أَحْيَانًا، فَمَنْ جَعَلَهَا (فَعْلَى) وَقَفَ عَلَيْهَا أَشَارَ إِلَى الْكَسْرِ، وَمَنْ جَعَلَهَا أَلِفَ إِعْرَابٍ لَمْ يُشِرْ؛ لِأَنَّ أَلِفَ الْإِعْرَابِ لَا تُكْسَرُ، لَا يُقَالُ: رَأَيْتُ زَيْدًا، فَيُشَارُ فِيهِ إِلَى الْكَسْرِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} يَقُولُ: يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} يَقُولُ: بَعْضُهَا عَلَى أَثَرِ بَعْضٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: (تَتْرَى) قَالَ: اتِّبَاعُ بَعْضِهَا بَعْضًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} قَالَ: يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} قَالَ: بَعْضُهُمْ عَلَى أَثَرِ بَعْضٍ، يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَاخْتَلَفَتْ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ (تَتْرًا) بِالتَّنْوِينِ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَعَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ يَقْرَءُونَهُ: (تَتْرَى) بِإِرْسَالِ الْيَاءِ عَلَى مِثَالِ (فَعْلَى)، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَلُغَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، غَيْرَ أَنِّي مَعَ ذَلِكَ أَخْتَارُ الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ؛ لِأَنَّهُ أَفْصَحُ اللُّغَتَيْنِ وَأَشْهَرُهُمَا. وَقَوْلُهُ: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} يَقُولُ: كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ، الَّتِي أَنْشَأْنَاهَا بَعْدَ ثَمُودَ، رَسُولُهَا الَّذِي نُرْسِلُهُ إِلَيْهِمْ، كَذَّبُوهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا. وَقَوْلُهُ: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} يَقُولُ: فَأَتْبَعْنَا بَعْضَ تِلْكَ الْأُمَمِ بَعْضًا بِالْهَلَاكِ، فَأَهْلَكْنَا بَعْضَهُمْ فِي إِثْرِ بَعْضٍ. وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} لِلنَّاسِ، وَمَثَلًا يُتَحَدَّثُ بِهِمْ فِي النَّاسِ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ جَمْعُ أُحْدُوثَةٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى مَا وَصَفْتُ مِنْ أَنَّهُمْ جُعِلُوا لِلنَّاسِ مَثَلًا يُتَحَدَّثُ بِهِمْ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ حَدِيثٍ، وَإِنَّمَا قِيلَ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} لِأَنَّهُمْ جُعِلُوا حَدِيثًا، وَمَثَلًا يُتَمَثَّلُ بِهِمْ فِي الشَّرِّ، وَلَا يُقَالُ فِي الْخَيْرِ: جَعَلْتُهُ حَدِيثًا، وَلَا أُحْدُوثَةً. وَقَوْلُهُ: {فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} يَقُولُ: فَأَبْعَدُ اللَّهُ قَوْمًا لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَلَا يُصَدِّقُونَ بِرَسُولِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ أَرْسَلْنَا بَعْدَ الرُّسُلِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَأَشْرَافِ قَوْمِهِ مِنَ الْقِبْطِ (بِآيَاتِنَا) يَقُولُ: بِحُجَجِنَا (فَاسْتَكْبَرُوا) عَنِ اتِّبَاعِهَا، وَالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ {وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} يَقُولُ: وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ عَلَى أَهْلِ نَاحِيَتِهِمْ، وَمَنْ فِي بِلَادِهِمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ بِالظُّلْمِ، قَاهِرِينَ لَهُمْ. وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَقَوْلُهُ: {وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} قَالَ: عَلَوْا عَلَى رُسُلِهِمْ، وَعَصَوْا رَبَّهُمْ، ذَلِكَ عُلُوُّهُمْ، وَقَرَأَ: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ} الْآيَةَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَقَالَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} فَنَتَّبِعُهُمَا (وَقَوْمُهُمَا) مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ (لَنَا عَابِدُونَ) يَعْنُونَ: أَنَّهُمْ لَهُمْ مُطِيعُونَ مُتَذَلِّلُونَ، يَأْتَمِرُونَ لِأَمْرِهِمْ، وَيَدِينُونَ لَهُمْ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَنْ دَانَ لِمَلِكٍ: عَابِدًا لَهُ. وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِأَهْلِ الْحَيْرَةِ: الْعِبَادُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهَلَ طَاعَةٍ لِمُلُوكِ الْعَجَمِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: قَالَ فِرْعَوْنُ: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا}... الْآيَةَ، نَذْهَبُ نَرْفَعُهُمْ فَوْقَنَا وَنَكُونُ تَحْتَهُمْ، وَنَحْنُ الْيَوْمَ فَوْقَهُمْ وَهُمْ تَحْتَنَا، كَيْفَ نَصْنَعُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ حِينَ أَتَوْهُمْ بِالرِّسَالَةِ، وَقَرَأَ: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} قَالَ: الْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} يَقُولُ: فَكَذَّبَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ مُوسَى وَهَارُونَ، فَكَانُوا مِمَّنْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ كَمَا أَهْلَكَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ بِتَكْذِيبِهَا رُسُلَهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى التَّوْرَاةَ لِيَهْتَدِيَ بِهَا قَوْمُهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا، {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ} يَقُولُ: وَجَعَلَنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ حُجَّةً لَنَا عَلَى مَنْ كَانَ بَيْنَهُمْ، وَعَلَى قُدْرَتِنَا عَلَى إِنْشَاءِ الْأَجْسَامِ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، كَمَا أَنْشَأْنَا خَلْقَ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ. كَمَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّازِقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ} قَالَ: وَلَّدَتْهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ هُوَ لَهُ، وَلِذَلِكَ وَحَّدْتُ الْآيَةَ، وَقَدْ ذَكَرَمَرْيَمَوَابْنَهَا. وَقَوْلُهُ {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} يَقُولُ: وَضَمَمْنَاهُمَا وَصَيَّرْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ، يُقَالُ: أَوَى فَلَانٌ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا، فَهُوَ يَأْوِي إِلَيْهِ، إِذَا صَارَ إِلَيْهِ؛ وَعَلَى مِثَالِ أَفْعَلْتُهُ فَهُوَ يُؤْوِيهِ. وَقَوْلُهُ {إِلَى رَبْوَةٍ} يَعْنِي: إِلَى مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ عَلَى مَا حَوْلَهُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلرَّجُلِ، يَكُونُ فِي رِفْعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ، وَعِزٍّ وَشَرَفٍ وَعَدَدٍ: هُوَ فِي رَبْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ، وَفِيهَا لُغَتَانِ: ضَمُّ الرَّاءِ وَكَسْرُهَا إِذَا أُرِيدَ بِهَا الِاسْمُ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهَا الْفِعْلَةُ مِنَ الْمَصْدَرِ قِيلَ: رَبَا رَبْوَةٌ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَآوَى إِلَيْهِمَرْيَمَوَابْنَهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الرَّمْلَةُ مِنْ فِلَسْطِينَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: ثَنَا بِشْرُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: ثَنِي ابْنُ عَمٍّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ لَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ: الْزَمُوا هَذِهِ الرَّمَلَةَ مِنْ فِلَسْطِينَ، فَإِنَّهَا الرَّبْوَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}. حَدَّثَنِي عِصَامُ بْنُ رَوَّادِ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، قَالَ: ثَنَا عَبَّادٌ أَبُو عُتْبَةَ الْخَوَّاصُ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ، عَنِ ابْنِ وَعْلَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ قَالَ: مَا أَدْرِي مَا حَدَّثَنَا مُرَّةُ الْبَهْزِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ أَنَّ الرَّبْوَةَ: هِيَ الرَّمَلَةُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ بِشْرِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَمِّ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} قَالَ: هِيَ الرَّمَلَةُ مِنْ فِلَسْطِينَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا صَفْوَانُ، قَالَ: ثَنَا بِشْرُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: ثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَمِّ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ لَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ: الْزَمُوا هَذِهِ الرَّمَلَةَ الَّتِي بِفِلَسْطِينَ، فَإِنَّهَا الرَّبْوَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ دِمَشْقُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} قَالَ: زَعَمُوا أَنَّهَا دِمَشْقُ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: بَلَغَنِي، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: دِمَشْقُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، مِثْلُهُ. حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ السَّهْمِيُّ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: ثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي قَوْلِهِ: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} قَالَ: إِلَى رَبْوَةٍ مَنْ رُبَا مِصْرَ قَالَ: وَلَيْسَ الرُّبَا إِلَّا فِي مِصْرَ، وَالْمَاءُ حِينَ يُرْسَلُ تَكُونُ الرُّبَا عَلَيْهَا الْقُرَى، لَوْلَا الرُّبَا لَغَرِقَتْ تِلْكَ الْقُرَى. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: هُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ. قَالَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ كَعْبٌ يَقُولُ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَقْرَبُ إِلَى السَّمَاءِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَيْلً. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ كَعْبٍ، مِثْلُهُ. وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ: أَنَّهَا مَكَانٌ مُرْتَفِعٌ ذُو اسْتِوَاءٍ، وَمَاءٍ ظَاهِرٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ صِفَةُ الرَّمَلَةِ؛ لِأَنَّ الرَّمَلَةَ لَا مَاءَ بِهَا مَعِينٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَصَفَ هَذِهِ الرَّبْوَةَ بِأَنَّهَا ذَاتُ قَرَارٍ وَمَعِينٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} قَالَ: الرَّبْوَةُ: الْمُسْتَوِيَةُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {إِلَى رَبْوَةٍ} قَالَ: مُسْتَوِيَةٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ. وَقَوْلُهُ: {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مِنْ صِفَةِ الرَّبْوَةِ الَّتِي آوَيْنَا إِلَيْهَامَرْيَمَوَابْنَهَا عِيسَى، أَنَّهَا أَرْضٌ مُنْبَسِطَةٌ وَسَاحَةُ، وَذَاتُ مَاءٍ ظَاهِرٍ، لِغَيْرِ الْبَاطِنِ، جَارٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (وَمَعِينٍ) قَالَ: الْمَعِينُ: الْمَاءُ الْجَارِي، وَهُوَ النَّهْرُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الْأَسَدِيُّ، قَالَ: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} قَالَ: الْمُعِينُ: الْمَاءُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الْأَسَدِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: مَعِينٌ، قَالَ: مَاءٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ. حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، قَالَ: ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدٍ، فِي قَوْلِهِ: {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} قَالَ: الْمَكَانُ الْمُسْتَوِي، وَالْمَعِينُ: الْمَاءُ الظَّاهِرُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: (وَمَعِينٍ): هُوَ الْمَاءُ الظَّاهِرُ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِالْقَرَارِ الثِّمَارَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} هِيَ ذَاتُ ثِمَارٍ، وَهِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلُهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ فِي مَعْنَى: {ذَاتِ قَرَارٍ} وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهَا إِنَّمَا وَصَفْتُ بِأَنَّهَا ذَاتُ قَرَارٍ لِمَا فِيهَا مِنَ الثِّمَارِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، يَسْتَقِرُّ فِيهَا سَاكِنُوهَا، فَلَا وَجْهَ لَهُ نَعْرِفُهُ. وَأَمَّا (مَعِينٌ) فَإِنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ عِنْتُهُ فَأَنَا أُعِينُهُ، وَهُوَ مَعِينٌ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا مِنْ مَعَنٍ يُمْعِنُ فَهُوَ مَعِينٌ مِنَ الْمَاعُونِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُبَيْدِ بْنِ الْأَبْرَصِ: وَاهِيَةٌ أَوْ مَعِيِنٌ مُمْعِنٌ *** أَوْ هَضْبَةٌ دُونَهِا لُهُِوبُ
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقُلْنَا لِعِيسَى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الْحَلَالِ الَّذِي طَيَّبَهُ اللَّهُ لَكُمْ دُونَ الْحَرَامِ، (وَاعْمَلُوا صَالِحًا) تَقُولُ فِي الْكَلَامِ لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ: أَيُّهَا الْقَوْمُ كَفُّوا عَنَّا أَذَاكُمْ، وَكَمَا قَالَ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ}، وَهُوَ رَجُلٌ وَاحِدٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنُ وَاصِلٍ، قَالَ: ثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْحَاقَ الضَّبِّيُّ الْعَطَّارُ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ الْفِزَارِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السُّبَيْعِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} قَالَ: كَانَ عِيسَىابْنُ مَرْيَمَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ. وَقَوْلُهُ: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} يَقُولُ: إِنِّي بِأَعْمَالِكُمْ ذُو عِلْمٍ، لَا يَخْفَى عَلَيَّ مِنْهَا شَيْءٌ، وَأَنَا مُجَازِيكُمْ بِجَمِيعِهَا، وَمُوَفِّيكُمْ أُجُورَكُمْ وَثَوَابَكُمْ عَلَيْهَا، فَخُذُوا فِي صَالِحَاتِ الْأَعْمَالِ وَاجْتَهِدُوا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}. اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}، فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ (وَأَنَّ) بِالْفَتْحِ، بِمَعْنَى: إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَأَنَّ هَذِهِ أَمَتُّكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ (أَنَّ) فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، عَطَفَ بِهَا عَلَى (مَا) مِنْ قَوْلِهِ: (بِمَا تَعْمَلُونَ)، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ إِذَا قُرِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ. وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ، وَيَكُونُ نَصْبُهَا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ بِالْكَسْرِ: (وَإِنَّ) هَذِهِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَالْكَسْرُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي عَلَى الِابْتِدَاءِ هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ مِنَ اللَّهِ عَنْ قِيلِهِ لِعِيسَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ} مُبْتَدَأٌ، فَقَوْلُهُ: (وَإِنَّ هَذِهِ) مَرْدُودٌ عَلَيْهِ عَطْفًا بِهِ عَلَيْهِ، فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَقُلْنَا لِعِيسَى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَقُلْنَا: وَإِنَّ هَذِهِ أَمَتُّكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً. وَقِيلَ: إِنَّ الْأُمَّةَ الَّذِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الدِّينُ وَالْمِلَّةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} قَالَ: الْمِلَّةُ وَالدِّينُ. وَقَوْلُهُ: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} يَقُولُ: وَأَنَا مَوْلَاكُمْ فَاتَّقَوْنِ بِطَاعَتِي تَأْمَنُوا عِقَابِي، وَنُصِبَتْ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْحَالِ. وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ رَفْعًا. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَقُولُ: رَفْعُ ذَلِكَ إِذَا رُفِعَ عَلَى الْخَبَرِ، وَيَجْعَلُ أُمَّتَكُمْ نَصْبًا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ هَذِهِ. وَأَمَّا نَحْوِيُّو الْكُوفَةِ فَيَأْبَوْنَ ذَلِكَ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ شِعْرٍ، وَقَالُوا: لَا يُقَالُ: مَرَرْتُ بِهَذَا غُلَامَكُمْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا تَتْبَعُهُ إِلَّا الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَالْأَجْنَاسُ، لِأَنَّ "هَذَا" إِشَارَةٌ إِلَى عَدَدٍ، فَالْحَاجَةُ فِي ذَلِكَ إِلَى تَبْيِينِ الْمُرَادِ مِنَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَيُّ الْأَجْنَاسِ هُوَ، وَقَالُوا: وَإِذَا قِيلَ: {هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} وَالْأُمَّةُ غَائِبَةٌ، وَهَذِهِ حَاضِرَةٌ، قَالُوا: فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُبَيِّنَ عَنِ الْحَاضِرِ بِالْغَائِبِ، قَالُوا: فَلِذَلِكَ لَمَّ يَجُزْ: إِنَّ هَذَا زِيدَ قَائِمٌ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ هَذَا مُحْتَاجٌ إِلَى الْجِنْسِ لَا إِلَى الْمَعْرِفَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}. اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: (زُبُرًا) فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِ: (زُبُرًا) بِمَعْنَى جَمْعِ الزَّبُورِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى قِرَاءَةِ هَؤُلَاءِ: فَتَفَرَّقُ الْقَوْمُ الَّذِينَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ مِنْ أُمَّةِ الرَّسُولِ عِيسَى بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى الدِّينِ الْوَاحِدِ وَالْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ، دِينِهِمُ الَّذِي أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِلُزُومِهِ (زُبُرًا) كُتُبًا، فَدَانَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِكِتَابٍ غَيْرِ الْكُتَّابِ الَّذِينَ دَانَ بِهِ الْفَرِيقُ الْآخَرُ، كَالْيَهُودِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ دَانُوا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَكَذَّبُوا بِحُكْمِ الْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَكَالنَّصَارَى الَّذِينَ دَانُوا بِالْإِنْجِيلِ بِزَعْمِهِمْ، وَكَذَّبُوا بِحُكْمِ الْفُرْقَانِ. ذِكْرُ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ (زُبُرًا) قَالَ: كُتُبًا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلُهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {بَيْنَهُمْ زُبُرًا} قَالَ: كُتُبَ اللَّهِ فَرَّقُوهَا قِطَعًا. - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} قَالَ مُجَاهِدٌ: كُتُبُهُمْ فَرَّقُوهَا قِطَعًا. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: إِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: فَتَفَرَّقُوا دِينَهُمْ بَيْنَهُمْ كُتُبًا أَحْدَثُوهَا يَحْتَجُّونَ فِيهَا لِمَذْهَبِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} قَالَ: هَذَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْأَدْيَانِ وَالْكُتُبِ، كُلٌّ مُعْجَبُونَ بِرَأْيِهِمْ، لَيْسَ أَهْلُ هَوَاءٍ إِلَّا وَهُمْ مُعْجَبُونَ بِرَأْيِهِمْ وَهَوَاهُمْ وَصَاحِبِهِمُ الَّذِي اخْتَرَقَ ذَلِكَ لَهُمْ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الشَّامِ {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} بِضَمِّ الزَّايِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، بِمَعْنَى: فَتَفَرَّقُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ قِطَعًا كَزُبَرِ الْحَدِيدِ، وَذَلِكَ الْقِطَعُ مِنْهَا وَاحِدَتُهَا زُبْرَةٌ، مِنْ قَوْلِ اللَّهِ: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} فَصَارَ بَعْضُهُمْ يَهُودَ، وَبَعْضُهُمْ نَصَارَى. وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي نَخْتَارُ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ بِضَمِّ الزَّايِ وَالْبَاءِ؛ لِإِجْمَاعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ الْكُتُبَ، فَذَلِكَ يُبَيِّنُ عَنْ صِحَّةِ مَا اخْتَرْنَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الزُّبُرَ هِيَ الْكُتُبُ، يُقَالُ مِنْهُ: زَبَرْتُ الْكِتَابَ: إِذْ كَتَبْتُهُ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: فَتَفَرَّقَ الَّذِينَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِلُزُومِ دِينِهِ مِنَ الْأُمَمِ دِينَهُمْ بَيْنَهُمْ كُتُبًا كَمَا بَيَّنَا قَبْلُ. وَقَوْلُهُ: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} يَقُولُ: كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ، بِمَا اخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الدِّينِ وَالْكُتُبِ، فَرِحُونَ مُعْجَبُونَ بِهِ، لَا يَرَوْنَ أَنَّ الْحَقَّ سِوَاهُ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}: قِطْعَةٌ وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (كُلُّ حِزْبٍ) قِطْعَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَدَعْ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تُقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا، {فِي غَمْرَتِهِمْ} فِي ضَلَالَتِهِمْ وَغَيِّهِمْ (حَتَّى حِينٍ)، يَعْنِي: إِلَى أَجَلٍ سَيَأْتِيهِمْ عِنْدَ مَجِيئِهِ عَذَابِي. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} قَالَ: فِي ضَلَالِهِمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} قَالَ: الْغَمْرَةُ: الْغَمْرُ. وَقَوْلُهُ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَيَحْسَبُ هَؤُلَاءِ الْأَحْزَابُ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ زُبُرًا، أَنَّ الَّذِي نُعْطِيهِمْ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا مَنْ مَالٍ وَبَنِينَ {نُسَارِعُ لَهُمْ} يَقُولُ: نُسَابِقُ لَهُمْ فِي خَيِّرَاتِ الْآخِرَةِ، وَنُبَادِرُ لَهُمْ فِيهَا. وَ"مَا" مِنْ قَوْلِهِ: {أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ} نُصِبَ؛ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الَّذِي {بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرَهُ تَكْذِيبًا لَهُمْ: مَا ذَلِكَ كَذَلِكَ، بَلْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ إِمْدَادِي إِيَّاهُمْ بِمَا أَمُدُّهُمْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ إِمْلَاءٌ وَاسْتِدْرَاجٌ لَهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ} قَالَ: نُعْطِيهِمْ، {نُسَارِعُ لَهُمْ}، قَالَ: نُِزِيدُهُمْ فِي الْخَيْرِ، نُمْلِي لَهُمْ، قَالَ: هَذَا لِقُرَيْشٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: ثَنِي أَشْعَثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍَةَ قَوْلُ اللَّهِ: {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} قَالَ: يُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ، وَكَأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍَةَ وَجَّهَ بِقِرَاءَتِهِ ذَلِكَ، إِلَى أَنَّ تَأْوِيلَهُ: يُسَارِعُ لَهُمْ إِمْدَادُنَا إِيَّاهُمْ بِالْمَالِ وَالْبَنِينَ فِي الْخَيْرَاتِ.
|